نلاحظ، كلّما طرحت مسألة تتعلّق بالدين في المجتمع التونسي، أنّ التفاعل يكون أقوى وأكثر حدّة من الصدى المنبعث في أرجاء البلاد إثر تداولنا لمسائل متعلّقة بميادين أخرى..
وما صرّح به رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي حول منع الحجاب في المدارس يندرج في خانة المسائل التّي تثير ضجّة وحوار عميق بين كلّ مكونات المجتمع.. إذ تنوّعت مواقفهم بين مساندين، رافضين ورافعين لمطالب أكثر عمقا.. في نفس هذا السياق، نلاحظ أنّ الشيوخ يتسارعون بدورهم في تقديم أرائهم كلّما ذكرت مسألة لها علاقة بالدين مؤكّدين دائما بطريقة ضمنية أو مباشرة أنّ ما يصدر عنهم حقيقة مقدسة لا يجب الطعن فيها أو تنسيبها، وهذا الأمر خطير، فحتّى إن كانت أغلبية الشعب التونسي تدين بالإسلام، هذا لا يعني أنّ التأويل الشخصي لأيّ شيخ هو الرأي الواجب تبنّيه، فالدين ليس المكوّن الوحيد لشخصيّة المواطن، قد نختلف انا وأنت في طريقة العيش، الموقف السياسي، والمحيط الاجتماعي.. ونتبنى في الوقت ذاته نفس الدين ونختلف في تأويل أحكامه.. هذا التنوّع لا يمكن أن يكون إلاّ ثراء يقودنا نحو تأسيس مجتمع متعوّد على النقاش بالحجّة وقابل للتطوّر، فعدم قبول الآخر ورفض أيّ مختلف واعتبار أنّك المالك الوحيد للحقيقة قد يؤدّي إلى تخريب المجتمع وتطرّف أفراده..
كلّ ما يقع الآن داخل المجتمع التونسي دليل على أنّنا لم نتعوّد بعد على الجدال في مسائل حسّاسة مُنع الخوض فيها منذ الأزل بالاستناد إلى العرف والعادة، وقد نحتاج إلى زمن أطول لكي نتأقلم كما يجب مع حريّة التعبير والمعتقد ونتعوّد على ممارسة هذه الحقوق بشكل لائق لا يفرز عنفا ماديّا أو معنويّا. فبعد التغيير الجذري الذّي وقع سنة 2011 على مستوى التفكير والتعبير، اكتشفنا أنّ آراءنا مختلفة حتّى داخل العائلة الواحدة، قبل ذلك لم نكن نحدّث إلاّ في حدود رسمها خوفنا المطلق من السلطة، والآن، بفضل جهود أجيال صرنا نتحدّث في كلّ المواضيع دون أن نخشى أيّ سلطة..
هذا ما نلاحظه على الأقلّ في تعدّد المواقف الصادرة تفاعلا مع تقديم رئيس الجمهورية لمقترح منع الحجاب داخل المدارس، نجد فريقا أوّلا ساند ما جاء على لسان الباجي قائد السبسي في خطابه يوم 13 أوت، وبرز فريق آخر طالب بقانون يحمي حريّة المعتقد لدى الأطفال ويجبر أولياءهم على عدم فرض لباس طائفي قبل بلوغهم سنّ الرشد وتمكنهم من إدراك الأشياء والتفريق بين كلّ التوجّهات السائدة، كما نلاحظ تواجد فريق ثالث يعارض المقترح بالاستناد إلى حقّ الأولياء في تربية أبنائهم وبناتهم بالطريقة التّي يرونها أفضل وأمثل بالاستناد إلى الصلاحيات التّي يمنحها القانون التونسي للوليّ في تربية أبنائه وبناته، وإلى الدستور التونسي في فصله 39 الذّي ينص على أنّ الدولة تعمل على تأصيل الناشئة في هويتها العربيّة الإسلامية..
يستند كلّ الفرق إلى الدستور لتأكيد مشروعيّة أرائهم، وهذا يؤكّد أهميّة ما صرّحت به أستاذة القانون الدستوري ”سلسبيل القليبي” عندما اعتبرت مستقبل دستور 27 جانفي 2014 مرتبطا بتركيبة المحكمة الدستوريّة التّي ستكون المؤوّل الأساسي لفصوله والتّي ستنحت الاتجاه الواجب إتباعه في تفسير نصوصه العامة القابلة للتأويل بطرق شتّى.
ومهمّ أن نذكّر في هذا الإطار أنّ المحكمة الدستورية تتكون حسب الفصل 118 من 12 عضو من ذوي الكفاءة، يعين كلّ من رئيس الجمهورية، مجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء أربعة أعضاء منهم.
كل ما تقدمنا به يؤكّد أن المجتمع التونسي سيشهد تجاذبا سياسيا وثقافيا مهمّا إثر انطلاق مجلس نوّاب الشعب في مناقشة تركيبة المحكمة الدستورية، ونأمل أن تكون كلّ الآراء هادفة وبنّاءة وقادرة على تأسيس مستقبل يليق بتطلعات الأجيال القادمة.
بقلم : يحيى العداسي